♕ قصة .. حلم لم يتحقق ♕ بقلم الكاتب : ماهر اللطيف

 حلم لم يتحقق


بقلم :ماهر اللطيف


دخلت إلى صيدلية الحي، تحمل في يدها وصفة دواء - كُتب عليها Nitroglycerine (أقراص)،وهو دواء خاص بالذبحة الصدرية حين يشعر المريض بألم في قلبه -، وفي الأخرى ورقات نقدية، تلهث، تصيح، تستنجد، تستغيث، حافية القدمين، غير مرتبة الشعر، باكية العينين، حمراء الخدود، تقول لكل من تجده أمامها: "دعني أمر أرجوك، ابني يتألم كثيرًا، عليّ مده بالدواء فورًا ليستعيد توازنه وصحته."


لكن، للأسف، لم تجد الدواء وقتها (لا أقراص توضع تحت اللسان، لا بخاخ تحت اللسان أيضا، لا لصقات جلدية، ولا أقراص بطيئة الإطلاق)، مما زاد من هيجانها، ثورتها، غضبها، وجعلها تخرج جارية بحثا عن صيدلية أخرى قبل فوات الأوان - كما كانت تعتقد وتخاف من عواقب هذا الألم -.


وما إن وضعت قدميها خارج هذا المحل حتى انقض عليها أحدهم (طفل صغير لم يتجاوز عشر سنوات تقريبًا)، افتك ما بيديها، هرب جاريا دون أن يلتفت أو يعبأ بصياح الناس، شتمهم، سبهم، أو جري البعض الآخر وراءه، إلى أن اختفى عن الأنظار في لمح البصر.


فيمَا تسمرت المرأة في مكانها، مصدومة، مشدوهة، مجمدة، لا تصدق ما يحدث لها، وابنها في المنزل مع أخته الصغرى بين الحياة والموت في انتظار هذه الأقراص التي توسع شرايينه في وقت قصير وتعيد له عافيته.


وبعد لحظات، أطلقت العِنان إلى الصياح، العويل، اللطم، وهي تخبر جموع الناس التي أحاطت بها بحالة ابنها الخطيرة، وضرورة إعطائه الدواء درءا لكل مكروه محتمل، لكنها لم تجده هنا مما جعلها تسرع للبحث عنه في مكان آخر، فتعرضت إلى عملية سرقة في غفلة منها، مما جعل الوضع يتفاقم ويتأزم نظرا لوضعيتها المادية والاجتماعية، فهي أرملة تعيل طفلين: بنتا لم تتم الخامسة من عمرها، وولدا يبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة ، مريضًا بالقلب والسكري وضغط الدَّم، لم يكن لها عمل، وكانت تقتات من التسول وعطايا الجيران من حين إلى آخر، فبات الأمر شبه مستحيل التحقيق.


فمَا كان من الحاضرين إلا أن جمعوا لها ما تيسر من المال وهم يذكرون الله، يستغفرونه، يحوقلون، يطلقون الشهادة، وغيرها، فيمَا أعرب أحدهم عن استعداده الذَّهاب في الحال للبحث عن الدواء بدلا عنها (بما أن صاحب الصيدلية أخرج لها كرسيًا، أعطاها ماء، جس نبضها ونفسها، ...)، لكن هيهات، فقد سُرقت وصفة الدواء أيضا مع المال.


صدفة، كان بين الحاضرين طبيب، تبسم في وجه الأم وقال لها "لا تنزعجي، سأكتب لك وصفة جديدة"، أعطاها إلى الشاب ونعته على عنوان صيدلية منزوية في المدينة بها كل الأدوية متوفرة بأعداد كافية بإذن الله.


في الأثناء، كانت المرأة تهذي، تضحك تارَة وتبكي طورا، يرتعش جسدها، تنظر يمنة ويسرة، لا تنصت لأحد بما أنها كانت حينها متصلة بذكريات طفولة" هيثم" ابنها، الذي ولد مريضًا بقلبه، عانى الويلات، لم يعرف الصحة والعافية مثل بقية البشر، حتى أنه كان دائمًا يسألها "هل يأتي يومًا أماه وأتمتع بنعمة الصحة والعافية؟ هل يكتب لي أن أعيش يومًا واحدًا مثلكم، أم أني سألتحق بأبي وتقضي علي سكتة قلبية كما قضت على سندنا؟".


فجأة، أحست بيد تجذبها من كتفها بقوة نسبيًا، تسترجع واقعها المر، ترفع رأسها نحو "الجاذب" لتجده كهلا أنيق الملبس والمظهر، طيب الرواح، يبتسم في وجهها، يبسط يده نحوها ليعطيها كيسا وهو يقول بصوته الجَهْوَري:


- التحقت بالسارق أماه واسترجعت منه كل المسروق


- (أحدهم مقاطعًا بلهفة وصوت مرتفع) أين هو لنحمله إلى مركز الشرطة؟


- (مهدئًا، ضاحكا) لا داعي إلى ذلك، فقد لمته على صنيعه بعد أن علمت حالته الاجتماعية، فهو يتيم الوالدين، متشرد، لا مأوى له ولا عمل.... (مستدركًا) المهم، أني قمت بالواجب معه، فنصحته، وجهته، أعنته ماديًا ومعنويًا، أردت اقتياده إلى مركز من مراكز الرعاية المتخصصة بالطفولة و الوضعيات الحرجة مثله، لكنه أفلت مني بسرعة وهرب.


وواصل الحديث، العرض، التحليل قبل أن يعلمها أنه توجه إلى أقرب صيدلية هناك (أين قبض على اللص) واقتنى لها الدواء المطلوب بكميات تكفي مدة طويلة، وأعطاها بعض الخضر والغلال وظرفا مغلقًا (بداخله مالا)، ثم طلب منها ركوب سيارته ليوصلها إلى منزلها.


فصاح الطبيب، و من بعده بعض الحضور بكل تلقائية، طالبين اصطحابهما للاطمئنان على حالة ابنها (وأخته)، فحصه، مَدّ يد المساعدة للعائلة والمساهمة في تحسين ظروفها قدر الإمكان...


وما زالوا كذلك، حتى التحق بهم ذاك الشاب الذي تطوع لاقتناء دواء هيثم محملًا بأكياس من الدواء وبعض المقتنيات الأخرى، انظم إلى المجموعة وقصدوا بيت الأم "سعاد"، فكانت قافلة الخير والبركة، التضامن والتآزر، الوحدة والتكافل.


لكن، للأسف، ما إن فتحت باب منزلها حتى صدح صوت نحيبها في الحي، فقد وجدت هيثم ملقى على الأرض، جثمانا ساكنا، سبقت روحه جسده إلى لقاء والده، ولم تتحقق أمنيته في تذوق طعم الصحة ولو يومًا واحد، ومريم أخته تبكي بحرقة لأنها مبللة وقد شعرت بالجوع والعطش.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

♕ يا أنت ♕ بقلم الشاعرة : Meme Rahima

♕ ليس عربيا أنادي ♕ بقلم الشاعر : عصام جمال

♕ مقالة بعنوان ..الفتح الحقيقي: نحو استعادة الحكم الغيبي وتحقيق السلام في العالم ♕ بقلم الكاتب : عوف علي عبدالله محمد